كشف قصر الإليزيه الثلاثاء عن استعدادات فرنسية رسمية لاستقبال الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع غداً الأربعاء في باريس، في خطوة تعد الأولى من نوعها للرئاسة السورية الجديدة نحو القارة الأوروبية منذ التحولات السياسية الكبرى التي شهدتها سوريا نهاية العام الماضي، وتأتي هذه الزيارة المرتقبة في إطار مساعي دمشق لإعادة بناء علاقاتها الدولية وكسر العزلة السياسية التي فرضت على البلاد لسنوات طويلة، كما تعكس تحولاً ملحوظاً في موقف العواصم الأوروبية تجاه سوريا الجديدة بعد انتهاء حكم عائلة الأسد الذي استمر لأكثر من خمسة عقود، وتمثل الزيارة فرصة حاسمة للشرع لتقديم رؤيته لمستقبل سوريا الديمقراطي أمام أحد أكبر الشركاء الأوروبيين المحتملين في مرحلة إعادة الإعمار.
أكدت الرئاسة الفرنسية في بيانها الرسمي أن الرئيس ماكرون سيشدد خلال لقائه مع نظيره السوري على التزام فرنسا الثابت بدعم بناء سوريا جديدة حرة ومستقرة وذات سيادة كاملة تحترم جميع أطياف المجتمع السوري دون تمييز، وأوضح البيان أن هذا اللقاء يأتي ضمن إطار الالتزام التاريخي الفرنسي تجاه تطلعات الشعب السوري نحو السلام والديمقراطية بعد سنوات طويلة من الصراع والمعاناة، كما سيناقش الرئيسان قضايا إقليمية ملحة على رأسها استقرار المنطقة وخصوصاً الوضع في لبنان المجاور، بالإضافة إلى ملف مكافحة الإرهاب الذي يظل تحدياً مشتركاً للمجتمع الدولي، ويُنتظر أن يتطرق اللقاء أيضاً إلى مسألة عودة اللاجئين السوريين المتواجدين في مختلف الدول الأوروبية والذين ينتظرون ضمانات أمنية وسياسية كافية للعودة إلى وطنهم.
تأتي هذه الزيارة تتويجاً لمسار دبلوماسي بدأ مطلع فبراير الماضي عندما وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعوة رسمية للرئيس السوري الانتقالي لزيارة باريس، غير أن الدعوة اقترنت لاحقاً في نهاية مارس بشروط سياسية محددة أبرزها ضرورة تشكيل حكومة سورية شاملة تضم كافة أطياف المجتمع المدني السوري، مع توفير الضمانات الأمنية الكافية لعودة ملايين اللاجئين السوريين إلى مدنهم وقراهم، ويبدو أن الإدارة السورية الجديدة قد حققت تقدماً ملموساً في هذه الملفات بما سمح بتحديد موعد الزيارة التي طال انتظارها، وتكتسب هذه الخطوة أهمية استثنائية كونها تمثل أول اختراق دبلوماسي كبير للشرع على الساحة الأوروبية منذ توليه السلطة في دمشق مطلع العام الجاري، وتفتح الباب أمام احتمالات تحسن العلاقات السورية-الأوروبية بعد قطيعة استمرت لسنوات طويلة.
ويأتي هذا التطور الدبلوماسي البارز بعد نحو خمسة أشهر من التحول التاريخي الذي شهدته سوريا في الثامن من ديسمبر 2024، حين أنهت الفصائل السورية 61 عاماً من حكم حزب البعث و53 سنة من سيطرة عائلة الأسد على مقاليد السلطة في البلاد، بما فيها 24 عاماً تولى خلالها بشار الأسد رئاسة الجمهورية (2000-2024)، وقد أفضت هذه التطورات المتسارعة إلى تشكيل إدارة انتقالية في البلاد أعلنت في يناير الماضي تعيين أحمد الشرع رئيساً للبلاد خلال فترة انتقالية من المقرر أن تستمر خمس سنوات، تنتهي بإجراء انتخابات ديمقراطية تعددية تحت إشراف دولي، وقد واجهت الإدارة الجديدة تحديات جسام منذ توليها السلطة، أبرزها إعادة توحيد مؤسسات الدولة وإصلاح ما دمرته سنوات الحرب، فضلاً عن السعي لاستعادة مكانة سوريا على الساحة الدولية وتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
منذ توليه مقاليد السلطة في دمشق، يسعى الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع جاهداً لتقديم صورة مطمئنة للمجتمع الدولي حول التزام الإدارة الجديدة باحترام الحريات العامة وحماية الأقليات وتطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، وتركز جهوده الدبلوماسية الحالية على هدف محوري يتمثل في رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا إبان حكم الأسد، والتي لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة على الاقتصاد السوري المنهك، وقد نجح الشرع في الآونة الأخيرة بتحقيق اختراقات دبلوماسية مهمة على مستوى المنطقة من خلال زيارات متبادلة مع دول الجوار وخطوات تطبيع العلاقات مع عدة دول عربية، كما استقبل الشهر الماضي وفداً ألمانياً رفيع المستوى برئاسة وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك ونائب رئيس البرلمان الأوروبي آرمين لاشيت في قصر الشعب بدمشق، وهو ما اعتبره مراقبون مؤشراً إيجابياً على تحسن صورة سوريا الجديدة في العواصم الأوروبية، وتبقى زيارة باريس المرتقبة غداً امتحاناً حقيقياً لمدى قدرة الدبلوماسية السورية الجديدة على إقناع الغرب بجدية التحولات الديمقراطية في البلاد وإمكانية بناء شراكة مستقبلية تخدم مصالح جميع الأطراف.