مقبرة أثرية
من غرف العلاج إلى بوابة التاريخ: مقبرة أثرية تحت مستشفى تونسي
كتب بواسطة: محمد وزان |

في مشهد يُشبه أفلام الغموض، تحوّلت أشغال بناء مستشفى جديد في منطقة سبيبة التابعة لولاية القصرين وسط غرب تونس إلى حدث أثري غير متوقَّع، حين اصطدمت جرافة الحفر بأحجار غريبة تحت الأرض، لم تكن سوى مقدمة لاكتشاف أثري نادر: مقبرة ضخمة تضم عشرات القبور يعود تاريخها إلى القرنين الثالث والثامن بعد الميلاد.

هذا الاكتشاف المثير أعلن عنه المعهد الوطني للتراث، الذي أرسل فريقًا من الخبراء والباحثين لإجراء حفريات إنقاذ عاجلة، في محاولة لحماية ما تبقّى من الرفات والمعالم، وتوثيق المشهد التاريخي قبل أن تُدمره معدات البناء الثقيلة، ما وجده الفريق الأثري فاق كل التوقعات: قبور لأطفال داخل جرار فخارية، وهي طريقة دفن قديمة كانت تُستخدم لتوديع الأطفال حديثي الولادة أو من ماتوا في سن مبكرة، هذه الطريقة توحي بأن الموقع كان جزءًا من منطقة سكنية نشطة في العصور القديمة، حيث كانت تُمارس طقوس الدفن ضمن حدود المدينة.

هذا النمط من الدفن يعيد إلى الأذهان اكتشافًا مماثلًا وقع في مدينة الجم الساحلية في ثمانينيات القرن الماضي، حين عُثر على أكبر مقبرة للأطفال بالجرار في شمال إفريقيا.

والآن، يظهر أن سبيبة بدورها كانت تضم حضارة متقدمة لها طقوسها وعاداتها في التعامل مع الموتى، ولم يقتصر الاكتشاف على الأطفال، إذ عُثر أيضًا على قبور للكبار محفورة طوليًا في الأرض، وُضع فيها الموتى في وضعية القرفصاء، ومحاطة بقطع فخارية منحنية.

ويبدو أن هذه الطريقة كانت تمثل طقسًا جنائزيًا له دلالة دينية أو روحية خاصة، وربما كانت تُمارس ضمن جماعة لها معتقدات خاصة في الحياة بعد الموت.

ويُعتقد أن هذه القبور تعود إلى مدينة "سيفاس" التاريخية، إحدى المدن الرومانية التي ازدهرت في تونس خلال العهد البيزنطي، المدينة التي كانت تُعرف سابقًا بكونها مركزًا دفاعيًا وتجاريًا، بدأت الآن تكشف بعضًا من أسرارها المدفونة تحت التراب، بعد أن غطّاها النسيان لقرون.

 وقد تم العثور سابقًا في نفس المنطقة على حصن بيزنطي، حمامات رومانية، نوافير، نقوش لاتينية وبونية، كلها تدعم فرضية أن هذه الأرض كانت موطنًا لحياة متكاملة في القرون الغابرة.

هذا الاكتشاف يطرح سؤالًا مهمًا: كم من المدن الأثرية ما زالت مدفونة تحت أقدامنا دون أن ندري؟ وهل يمكن أن تكون مشاريع التنمية الحديثة سببًا في ضياع تراث لا يُقدّر بثمن؟، المعهد الوطني للتراث أكّد أنه تم نقل اللُقى الأثرية والرفات إلى المخازن المحفوظة تمهيدًا لدراستها، وأن المكان سيخضع لمزيد من التنقيبات لاحقًا.

كما دعا إلى مراجعة خطط البناء لتفادي إتلاف الموقع الأثري، رغم أن الحدث أربك سير مشروع المستشفى المنتظر من السكان، إلا أن الكثيرين رحّبوا بهذا الكشف، معتبرين أنه فرصة لإعادة إحياء المنطقة ثقافيًا وسياحيًا، وتحويلها إلى نقطة جذب للزوار والمهتمين بالتاريخ.

لقد أصبحت سبيبة اليوم على خارطة الاكتشافات العالمية، بفضل هذا الحدث العفوي الذي قلب مسار الحفريات من مشروع طبي إلى بوابة نحو الماضي، وربما، تحت كل حجر في تونس... تاريخ ينتظر من يكتشفه.